احتفل ماكس فيرستابن بخوض السباق الرقم 200 له في الفورمولا 1 على أرضه في جائزة هولندا الكبرى. حتى أن وجود هذا السباق بعد غياب حلبة زاندفورت عن روزنامة الفورمولا 1 لمدة 36 عامًا من منتصف ثمانينات القرن الماضي حتى عام 2021، هو شهادة على ما حققه بطل العالم ثلاث مرات في فريق أوراكل ريد بُل ريسينغ في تاريخ السباقات الممتدّ بين القرنَين العشرين والحادي والعشرين. ولا شك أنَّ للقصة الكثير من الفصول الشيّقة المنتظرة، والتي سيكشف عنها المستقبل.
وخير شاهد على جميع تلك السباقات المئتين باستثناء 14 منها، إن كزميل في الفريق أو كمنافس، كخصم أو كصديق، هو دانيال ريكياردو، السائق الأسترالي الذي تقاسم المرأب مع فيرستابن لمدة ثلاث سنوات، وكان جاره في نفس المبنى السكني في موناكو لسنوات عدة أخرى. وقد تطورت علاقتهما من الحذر إلى التنافسيّة التي تتطلبها البطولة، وصولاً إلى الصداقة التي ازدهرت مع نضوج السائقين اللذين تفصل بينهما ثماني سنوات من العمر، في حياتهما الشخصية ومسيرتها الرياضية.
وبعبارات ريكياردو، فيما يلي أهم اللحظات التي يتذكرها في رحلة فيرستابن مع ريد بُل حتى السباق المئتين، وكيف تحوّل من موهبة مراهقة إلى واحد من أبرز السائقين في هذه الرياضة.
01
"كان هذا العامل الأساسي الذي كان واضحًا جدًا على الفور"
تسعون دقيقة. هذا كل ما احتاجه دانييل ريكياردو ليعرف من هو ماكس فيرستابن.
كان هناك أمر مميز لدى هذا الشاب الذي انتقل من كونه أصغر سائق يبدأ سباقات الفورمولا 1 في عام 2015 في سن السابعة عشرة، إلى زميل ريكياردو في فريق ريد بُل ريسينغ في يوم مشمس في برشلونة، في افتتاح التجارب الحرة لجائزة إسبانيا الكبرى بعد عام واحد.
اكتشف الأسترالي ذلك على الفور، بعدما كان قد أمضى خمس سنوات في مسيرته في الفورمولا 1.
يقول ريكياردو مستذكرًا أول سباق لفيرستابن كزميل له في الفريق: "قفز إلى سيارة ريد بُل للمرة الأولى للتدريب وسرعان ما تأقلم عليها"، وذلك بعد خمس جولات من موسم شهد ترقية فيرستابن من تورو روسو إلى فريق ريد بُل الأول بعد سباق روسيا.
ويضيف: "لقد رأيت أكثر من مجرد السرعة... أكثر من مجرد ارتياح وعدم تأثر بأي أمر آخر. ومع وجود الكثير من الرياضات والكثير من الرياضيين، هذا هو أهم شيء؛ من يمكنه تحقيق النجاح عندما تكون الأنظار شاخصة عليه، عندما يكون تحت الأضواء وعليه التعامل مع الضغط الكبير. بالنسبة لي ... عندما كانت الأنظار مركّزة عليه للمرة الأولى، لم يبدُ منزعجًا من أي شيء. لا يمكنك أن تغفل ذلك. كان هذا العامل الأساسي الذي كان واضحًا جدًا على الفور."
كان هذا سباق الفورمولا 1 الرابع والعشرين لفيرستابن، وفوزه الأول الذي لا يُنسى، بعد يومين من تقييم ريكياردو الأولي الذي أثبت صحته. وبعد مرور ثماني سنوات، أصبح فيرستابن اليوم رجل الخبرة الأكثر نضجًا في هذه الرياضة، رغم أنه لا يزال في السادسة والعشرين من عمره، وقد فاز حتى الآن ببطولات عالمية عدة، وبعددٍ من السباقات لم يسبقه إليه سوى سائقَين اثنين آخرين فقط في تاريخ الفورمولا 1، وكان الرائد في هذه الرياضة لمدة نصف عقد من الزمان، والحبل على الجرار.
"رأيت أكثر من مجرد سرعة... أكثر من مجرد ارتياح وعدم تأثر بأي أمر آخر"
02
"لم أكن جاهزًا في سن 17 عامًا، لكن من الواضح أن ماكس كان كذلك"
راقب ريكياردو السائق الذي كان عليه فيرستابن في عام 2015 بفضول من بعيد، وأمضى ثلاثة مواسم كزميل له في الفريق مع الكثير من النجاحات، وبعض لحظات التوتر العرضي، وتنافس ضده كخصم بعدما قادته رحلته في الفورمولا 1 إلى رينو، ثم مكلارين، قبل أن يعود إلى أسرة ريد بُل مع فريق "فيزا كاش آب آر بي" في الموسمين الماضيين.
وشأنه شأن فيرستابن، هو واحد من 23 سائقًا فقط في تاريخ الفورمولا 1 الممتد على مدار 75 عامًا تجاوزوا 200 سباق جائزة كبرى، وهو رقم يمكن تحقيقه بسهولة أكبر مع المواسم المليئة بالسباقات في أيامنا هذه، ولكنه إنجاز كبير على الرغم من ذلك.
وفي أمر ذي دلالة، من منطلق التجربة الشخصية لريكياردو، كان فيرستابن جاهزًا لسباقات الفورمولا 1 وهو ما زال في سن السابعة عشرة فقط. وفي نفس العمر، كان ريكياردو ينهي دراسته الثانوية في موطنه في غرب أستراليا، ويشارك في بطولة فورمولا بي إم دبليو آسيا، ولم يصل إلى سباقات الفورمولا 1 إلا بعد مرور أسبوع واحد على عيد ميلاده الثاني والعشرين في عام 2011. وحتى في ذلك الوقت، لم يكن متأكدًا من استعداده.
شاهد ريكياردو يتحدى الشاب فيرستابن في سباق الكرافان هذا على حلبة فورمولا 1:
2 دقيقة
شاهد سباق عربات مقطورة بنكهة الفورمولا 1
يقول ريكياردو: "في سن 22 عامًا، شعرت بأنني ما زلت شابًا، ربما جاهز ذهنيًا لخوض التحدي، ولكن كنت أشعر أنني ما زلت شابًا، لذلك بالنسبة لماكس في سن 17 عامًا، كانت المسؤولية كبرى".
ويتابع: "كانت الخطوة في اتجاه الفورمولا 1 كبيرة جدًا في ذلك الوقت، السيارات من جهة، ولكن كل شيء يتعلّق بالفورمولا 1 وبالتجربة الهائلة التي تشكّلها. من الصعب الاستعداد لهذا الاستحقاق بكامله، والضغط المكثّف في عطلة نهاية الأسبوع المخصصة للسباق، والاعتياد على السيارات، وردود الفعل، والهندسة، والاستراتيجية، ووسائل الإعلام، وتفاعلات المشجعين... إنه أمر صعب، لأن هناك الكثير مما ينطوي عليه. وتيرة عطلة نهاية الأسبوع والمتطلبات، إنها أكثر استنزافًا من أي شيء قمت به على الإطلاق. وبالتأكيد لم أكن مستعدًا في سن 17 عامًا، لكن من الواضح أن ماكس كان كذلك."
بعدما تعمّقت زمالتهما في الفريق، شعر ريكياردو أن فيرستابن كان في تلك اللحظة المثالية في مسيرته الرياضية، من روح الشباب الممزوجة بالخبرة والمعرفة، والجاهزية لإطلاق العنان لعظمته الناشئة. لقد أدرك ريكياردو هذه الحقيقة لأنه عاشها بالفعل، في الوقت الذي تلا فوزه بأول ثلاثة انتصارات له في الفورمولا 1 في عام 2014.
في سن 22 عامًا، شعرت بأنني ما زلت شابًا، جاهز ذهنيًا للتحدي، ولكنْ شابًا، لذا بالنسبة لماكس في سن 17 عامًا، كانت المسؤولية كبرى
"في عام 2014، كنت أقرب إلى ما كان عليه ماكس في عام 2016، عندما تقفز إلى السيارة، وتنضم إلى فريق كبير للمرة الأولى، وتطلق العنان لحماستك وتقول دعنا نرى ما سيحدث"، يقول ريكياردو ضاحكًا.
ويضيف: "هذا مهم جدًا. ولكن بعد ذلك، نسخة 2016 مني، ربما تكون أشبه بنسخة 2018 من ماكس، حين تكون ما زلت شابًا ومتعطشًا بما يكفي للانتصارات، بحيث قد تكون متهورًا، ولكن بعد ذلك لديك بضع سنوات إضافية من الخبرة، ومن الناحية الفنية أنت أكثر انسجامًا مع السيارة والفريق والقرارات التي يتخذها.
ويكمل: "في الأيام التي يصعب فيها الاعتماد على الموهبة الخالصة فقط، يأتي دور الدعم الذي تتلقاه من الفريق. كان موسم 2016 هو الوقت الذي شعرت فيه بذلك، وهو ما بدأ ماكس في الوصول إليه بحلول عام 2018."
12 دقيقة
أسرع مسيّرة مخصصة للتصوير تطارد ماكس فيرستابن
أسرع مسيّرة مخصصة للتصوير تطارد ماكس فيرستابن أسرع لفّة كما لم ترها من قبل، حلّق مع مسيّرة قادرة على بلوغ سرعات الفورمولا 1 وأكثر من 300 كلم/س...
03
"لديه ثقة بالنفس وإيمان غير محدود بقدارته"
بحلول ذلك الوقت، بدأ ريكياردو، الذي تغلّب على فيرستابن في بطولة العالم في أول عامين لهما معًا في 2016-2017، يدرك المستوى العظيم الذي كان السائق الهولندي على وشك أن يبلغه.
وهو يقول مستذكرًا: "شعرت أنه في كثير من الأحيان كان يقود مرتكزًا على موهبة وسرعة خالصتَين، لذلك كانت تنقص في ذلك العمر براعة التعامل مع مواقف معينة، حيث يمكن أن يصاب بالارتباك أو الاضطراب... كان هذا أمرًا تفوّقت فيه في تلك المرحلة، مع مزيد من الخبرة والنضج".
ويردف: "لكنني كنت أعلم أنه سيكتسب هذه المزايا في الوقت المناسب، إذ كان يمكنك أن ترى تطور أدائه بشكل ملحوظ. كان سريعًا بالقدر نفسه، إن لم يكن أسرع، لكن الأخطاء أصبحت أقل، وكذلك تطوّر أداؤه الفنيّ... أصبح أكثر انسجامًا مع السيارة، وتعزّزَ تواصله للفريق. بدأ يصير أكثر اكتمالاً... أكثر شمولاً، ومختلفًا ومتميّزًا بعض الشيء."
بلغ مستوى رائع من الهدوء والاتزان والثقة، وهذا هو الأمر الأكثر إثارة للإعجاب الآن
وبحلول عام 2021، عندما فاز فيرستابن بأول لقب عالمي له بعد أن تجاوز المتصدّر في اللفة الأخيرة من السباق الأخير للموسم في أبوظبي، توّج هذه المسيرة الرياضيّة الفتيّة بلقب استثنائي. كان هذا الفوز العشرين لفيرستابن في انطلاقته الـ141؛ وجاءت الانتصارات العشرين التالية في 29 انطلاقة فحسب، وكان الفوز الرقم أربعين في إسبانيا عام 2023، وهو مضمار حلبة برشلونة-كاتالونيا نفسه، حيث فاز للمرة الأولى قبل سبع سنوات.
وجاء الفوز الرقم ستين في كندا في عام 2024. وبكونه ما زال شابًا والوقت حليفه، ما من أحد يمكنه التنبّؤ بالمستوى الذي سبلغه والأرقام التي سيحطّمها قبل أن يضع خوذته جانبًا ويعتزل."
ويدرك ريكياردو مدى صعوبة الفوز في الفورمولا 1، وكذلك "المرحلة الذهبية المهمة جدًا" التي مر بها فيرستابن.
ويقول: "الشيء الأفضل بالنسبة له الآن هو أنه سار على الطريق الصحيح مرات عدة، لذا هو يتمتع بثقة بالنفس وإيمان غير محدود بقدرته على تحقيق إنجازات كبرى، حتى عندما لا يتوقع منه أحد ذلك".
ويضيف: "إنه أيضًا في موقع مميّز الآن نتيجة ما حققه في السنوات القليلة الماضية ومدى تركيزه اليوم، والأمر أشبه بعمل الساعة. فقد بلغ مستوى رائع من الهدوء والاتزان والثقة، وهذا هو الأمر الأكثر إثارة للإعجاب الآن، بعدما نجح في تخطي كل تلك الأخطاء الصغيرة التي اعتاد ارتكابها. وصحيح أنها مسألة تتعلق بفن القيادة، لكنها في النهاية مسألة صلابة ذهنية تخوّله أن يسيطر تمامًا على الأمور ولا يتأثر بأي شيء".
04
"ربما يصبح الأعظم على مر العصور"
يرى ريكياردو أن علاقتهما تطوّرت بشكل كبير بعدما أصبح كلا السائقين نجمَين بارزَين، وبالنسبة إليه، فإن معرفة الواحد بالآخر تبلغ مستوى إضافي مع مرور الوقت.
وهو يقول: "أفكر في تلك الأيام عندما كنا زميلَين في الفريق... لقد أتى وأحدث ضجّة كبيرة وقام ببعض الأمور الرائعة، لكنني كنت أحاول أن أترك بصمتي أيضًا".
ويضيف: "كنا نقاتل من أجل موقعنا في القمة، لذلك هناك بطبيعة الحال بعض الأجواء التنافسية والقليل من التشنّج. وعندما لم نكن نتنافس بشكل مباشر كزميلَين في الفريق بعد عام 2018، ساهم ذلك في كسر ما تبقى من الجليد بيننا."
هذا ببساطة ينبع من تقديري واحترامي لما حققه حتى الآن، وما يواصل تحقيقه
ويتابع: "علاوة على ذلك، أصبحنا أكثر نضجًا. عندما تكون يافعًا، تميل إلى عدم احترام خصومك كثيرًا. الجميع خصم، وهذا ما تتطلّبه المنافسة الشرسة. لكن مع تقدمك في العمر، تحترم منافسيك بطبيعة الحال أكثر."
وبحسب ريكياردو، "الاستمرار في الرياضة يتطلب مستوى من الاحترام في التعامل بين الرياضيين. ومع مرور الوقت ترى الجانب الإنساني يتقدّم على الروح التنافسية."
"ربما تمكنت من التأثير على بعض الأشخاص بطريقة إيجابية، بأسلوب مرح وأكثر هدوءًا. آمل أن أكون فعلت ذلك مع ماكس... لن أعيد الفضل بكامله لي، ربما القليل منه فقط! ولكن، ضع المزاح جانبًا، لا مشكلة لديّ في القول إنه ربما يصبح الأعظم على مر العصور."
ويخلص: "أقول ذلك بلا تردّد، وهذا ببساطة ينبع من تقديري واحترامي لما حققه حتى الآن، وما يواصل تحقيقه."